تصاعد تأثير الغاز في التحولات الداخلية والتفاعلات الإقليمية، بل وتجاوز ذلك إلى السياسات الدولية المنخرطة في بؤر الصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط، على نحو بدا جليًا خلال النصف الثاني من عام 2017، سواء من منظور تعاوني أو صراعي، وهو ما تعكسه حزمة من المؤشرات، تتمثل في إنعاش الخزينة العامة بالعائدات الغازية، وتلبية الاحتياجات المحلية من الكهرباء، ودعم مراكز الجيوش النظامية، وتوجيه السيطرة الميدانية للجيوش الموازية، وزيادة الموارد المالية للميليشيات المسلحة، وتسوية القضايا التاريخية العالقة، وحل القضايا الخلافية الثنائية، وتوسيع مساحات التقارب بين قوى دولية وقوى إقليمية، وحماية المصالح الاستراتيجية الروسية في الإقليم.
وقد برزت مؤشرات تأثير الغاز في تحولات البيئة الداخلية ومنسوب التفاعلات الإقليمية، على النحو التالي:
زيادة المداخيل:
1- إنعاش الخزينة العامة بالعائدات الغازية: على نحو ينطبق جليًا على حال الجزائر، عبر إحياء عمليات التنقيب والاستكشاف في آبار الغاز الصخري بمنطقة عين صالح في جنوب البلاد، والتي جُمدت منذ عام 2015، إذ صرح رئيس الوزراء أحمد أويحيى، على هامش فعالية اقتصادية في محافظة وهران في أول أكتوبر الجاري قائلاً: "إن الحكومة تشجع الاستثمار في مجال المحروقات، لا سيما الوقود الصخري.. لدينا قدرات في هذا المجال".
وقد صنفت وكالة الطاقة الدولية الجزائر من بين أكبر ثلاثة احتياطيات في العالم من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج، بعد الصين والأرجنتين. ووفقًا لتقديرات رسمية، تبلغ صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي 54 مليار متر مكعب خلال عام 2016، وهناك مسعى حكومي لرفعها إلى 57 مليار متر مكعب بنهاية العام الجاري، حيث ترى الحكومة الجزائرية أن إحياء مشاريع استغلال الغاز الصخري يضمن زيادة "المداخيل الوطنية" في مجال الطاقة.
إنتاج الكهرباء:
2- تلبية الاحتياجات المحلية من الكهرباء: تقترب شركة "أرامكو" من الانتهاء من أول مشروع للغاز الصخري المعروف بـ(النظام أ) الذي يتضمن منشآت لمعالجة الغاز ورؤوس آبار وخطوط أنابيب في محافظة طريف، بحيث يتم تغذية مشروع "وعد الشمال" لتعدين الفوسفات في المنطقة. فثمة أولوية سعودية تتعلق بالبحث عن إمدادات الغاز الطبيعي لتلبية الاحتياجات المجتمعية من الكهرباء، لا سيما في ظل تعهد الحكومة السعودية خفض انبعاثاتها من الكربون، ويعد الغاز أكثر نظافة من النفط في توليد الكهرباء.
ووفقًا لما تشير إليه شركة "أرامكو"، فإن إنتاجها من الغاز سيتضاعف إلى 23 مليار قدم مكعب قياسية يوميًا خلال السنوات العشر المقبلة بما في ذلك ملياران إلى ثلاثة مليارات قدم مكعب يوميًا من الغاز الصخري. وتشير بعض الكتابات إلى أن "أرامكو" تتجه لبناء "النظام ب" الذي سيكون أكبر بأربع مرات على الأقل من "النظام أ"، ولديها خطط لبناء "النظام ج"، لكنها لم تنظم حتى الآن مناقصات لتشييده.
تطهير جغرافي:
3- دعم مراكز الجيوش النظامية: لا سيما بعد تطهير مناطق جغرافية من سيطرة التنظيمات الإرهابية، إذ تم إعادة فتح ميناء بنغازي التجاري في ليبيا في أول أكتوبر 2017 بعد إغلاق دام ثلاث سنوات على إثر المواجهات بين قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر والميليشيات الإرهابية والمسلحة. ووصل عبدالله الثني رئيس وزراء الحكومة المتمركزة في الشرق على متن ناقلة نفط أبحرت من سواحل مدينة طبرق.
وفي هذا السياق، قال ناصر المغربي المتحدث باسم ميناء بنغازي: "إن الميناء لا يصدر النفط، لكنه يستورد بعض المنتجات النفطية إضافة إلى شحنات عامة وسيؤدي إعادة فتحه إلى خفض تكلفة تلك الشحنات". ولعل إعادة فتح ميناء بنغازي تمثل رسالة محددة مفادها تحرير شرق البلاد من سيطرة التنظيمات الإرهابية في ظل تطلع بعض القوى الإقليمية، مثل الإمارات ومصر، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور غسان سلامة لتسوية الأزمة الليبية.
وفي الإطار ذاته، صدر بيان عن خلية الإعلام الحربي في الجيش العراقي، في 16 سبتمبر 2017 جاء فيه: "إن قوات الجيش والحشد الشعبي والحشد العشائري والفوج التكتيكي لشرطة الأنبار تحرر ناحية عكاشات بالكامل وتفتح طريق تقاطع عكاشات على الخط الدولي باتجاه عكاشات ولا زالت عمليات التطهير مستمرة"، وهو ما يشير إلى أن القوات العسكرية النظامية في سوريا والعراق تقاتل تنظيم "داعش" في منطقة صحراوية غنية بالغاز.
خزان مالي:
4- توجيه السيطرة الميدانية للجيوش الموازية: وهو ما ينطبق على سيطرة ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" على حقل غاز "كونوكو" بدير الزور، في وقت تشتد المواجهات المسلحة مع قوات الجيش النظامي للسيطرة على حقول النفط والغاز، في مرحلة ما بعد تراجع تنظيم "داعش"، حيث كان التنظيم يسيطر على تلك الحقول في شرق البلاد. وقد تمركزت قوات أمريكية على مقربة من منشأة "كونوكو" للغاز، بهدف حمايتها من هجمات قوات النظام السوري والميليشيات الداعمة لها.
ويمثل ذلك تحولاً ميدانيًا عما كان يجري خلال السنوات الثلاث الماضية، التي شهدت سيطرة تنظيم "داعش" على الحقول النفطية والغازية في منطقة دير الزور، الأمر الذي شكل موردًا هامًا لتمويله. غير أنه منذ أسابيع قليلة، صارت دير الزور مسرحًا لعمليتين عسكريتين: الأولى يقودها الجيش النظامي السوري بدعم جوي روسي لطرد "داعش" من المناطق الغربية. والثانية تخوضها "قوات سوريا الديمقراطية" بدعم من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد "داعش" من المناطق الشرقية.
تمويل الميليشيا:
5- زيادة الموارد المالية للميليشيات المسلحة: تشير بعض الكتابات الصحفية إلى أن حركة الحوثيين تتلاعب بأسعار الغاز المسال في اليمن، بل ترفعها بمقدار أربعة أضعاف في مناطق سيطرتها مقارنة ببقية أنحاء البلاد، لتصعد من 1200 ريال يمني (4,8 دولار) إلى 5000 ريال يمني (20 دولارًا)، لا سيما بعد أن بالغت في تحصيل الرسوم على المواطنين تحت مسميات مخالفة للقانون كرسوم دعم ما يسمى "المجهود الحربي".
وطبقًا لما صرح به المهندس شوقي المخلافي وكيل وزارة النفط اليمنية لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، في 25 سبتمبر الفائت، فإن "الحكومة الشرعية تهتم بالشعب اليمني كله، وبناءً على هذه المسئولية زودت الشركة اليمنية للغاز جميع أرجاء الوطن بمادة الغاز المنزلي، لكن الميليشيات الحوثية دمرت المؤسسات بطريقة ممنهجة، وتمارس الجباية غير القانونية والمضاربة في الأسواق السوداء، ما أدى إلى اختفاء الأسعار الرسمية والوصول إلى أسعار خيالية".
فعلى الرغم من سماح الحكومة الشرعية، بالتعاون مع قوات التحالف العربي والأمم المتحدة، بوصول سفن المشتقات النفطية إلى ميناء الحديدة، إلا أن ميليشيا الحوثي تفرض إتاوات على المحطات التي تبيع المشتقات النفطية، كما تقوم بإنشاء نقاط لتحصيل ضرائب جمركية على الشحنات القادمة من الموانئ والمنافذ إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها. ومن ثم، تسهم تلك الموارد الناتجة عن الاختلالات السعرية في تمويلها.
تسوية "التعويضات":
6- تسوية القضايا التاريخية العالقة: وهو ما ينطبق على العلاقات بين العراق والكويت، إذ أعلن وزير النفط والكهرباء والماء الكويتي عصام المرزوق، في تصريح صحفي على هامش حضوره احتفال السفارة الألمانية ببلاده بالعيد الوطني لألمانيا في 3 أكتوبر 2017، موافقة بلاده على عرض العراق تصدير الغاز الطبيعي للكويت كجزء من التعويضات المستحقة عليه بسبب غزو الكويت في عام 1990 والتي تبلغ 4,6 مليار دولار.
وقد أشار رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لتقدير التعويضات عن خسائر الغزو العراقي خالد المضف، في كلمة أمام الدورة الـ83 للجنة الأمم المتحدة للتعويضات التي عقدت في جنيف، إلى أن هناك أربع بدائل أو خيارات مستقبلية لدفع التعويضات: البديل الأول يتمثل في شراء الكويت للغاز العراقي بالسعر المتفق عليه بين الطرفين، بينما ينص البديل الثاني على التفاوض بشأن تخفيض النسبة المئوية من واردات العراق من النفط ومشتقاته، في حين ينصرف البديل الثالث إلى تخفيض قيمة المبلغ المتبقي من التعويضات، أما البديل الأخير فيتعلق بتحويل المبلغ المتبقي من التعويضات إلى ديون ثنائية بين البلدين. وتم ترجيح الخيار الأول يحيث ستكون البداية بـ50 مليون قدم مكعب وستصل إلى 200 مليون قدم مكعب.
حل الخلافات:
7- حل القضايا الخلافية الثنائية: وينطبق ذلك على محورية المصالح الاقتصادية الغازية في إطار العلاقات المصرية- الإيطالية، حيث أدت الاستثمارات الإيطالية في بعض حقول الغاز المصرية التي تم اكتشافها خلال العامين الماضيين إلى تغيير مسار العلاقات بين روما والقاهرة، بل وتوافقها معها بشأن الأزمة الليبية.
وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية والتعاون الدولي الإيطالي أنغيلينو ألفانو، في 29 أغسطس 2017: "إن مصر دولة لا غنى عنها في ملف الأزمة الليبية"، بل يسود توافق بين القاهرة وروما بشأن دعم دور المشير خليفة حفتر في حل الأزمة، ومواجهة خطر تنظيم "داعش"، لا سيما في ظل محاولة عودته إلى الجنوب الليبي، مع قدوم مقاتلين أجانب من سوريا والعراق، وقد مهد ذلك التوافق إلى عودة السفير الإيطالي جامباولو كانتيني إلى القاهرة.
مصالح متعددة:
8- توسيع مساحات التقارب بين قوى دولية وقوى إقليمية: إذ أن ثمة تعاونًا سعوديًا- روسيًا في مجالات النفط والغاز والطاقة الكهربائية ومصادر الطاقة المتجددة. وقد بدا واضحًا خلال زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز لموسكو في 5 أكتوبر الجاري، أن شركاء سعوديين يدرسون مشاركة "نوفاتك" الروسية لإنتاج الغاز الطبيعي في روسيا، وتشير بعض الكتابات إلى أنه من المنتظر توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة والسعودية بشأن مشروع للغاز المسال في القطب الشمالي، ويستهدف أن يبدأ تشغيله خلال السنوات القليلة المقبلة، حيث يعتبر ثاني مشروع للغاز المسال لشركة "نوفاتك".
دبلوماسية الأنابيب:
9- حماية المصالح الروسية في الإقليم: يأتي التنافس على موارد الطاقة كإحدى الغايات الرئيسية للدول الكبرى التي تسعى لتعزيز نفوذها الدولي في بعض المناطق الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الشرق الأوسط، بل هناك من يرى إحلال الصراع الدولي على الغاز بدلاً من النفط في المستقبل، حيث يؤثر الغاز على الاقتصاد العالمي والأمن الدولي.
وفي هذا السياق، يمكن القول أن أحد المحددات الحاكمة لتدخل روسيا في ساحة الصراع السوري يتعلق برعاية مصالحها الاستراتيجية في الحصول على إمدادات الغاز، بدءًا من حماية أنابيب النقل وصولاً إلى موانئ التصدير، حيث تدرك موسكو أن تنويع مصادر الغاز الطبيعي والاستغناء عن الغاز الروسي بات هدفًا استراتيجيًا لدول الاتحاد الأوروبي. لذا، تصر موسكو، حسب اتجاهات عديدة، على التمسك بنظام الأسد، لقطع الطريق على مشروع نقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر الأراضي السورية.
كما يسمح بقاء نظام الأسد بوصول الغاز الإيراني إلى الموانئ السورية عبر البحر الأبيض المتوسط، حيث تتطلع روسيا لإبرام عقود طويلة الأمد مع إيران، تتمكن عبرها موسكو من تصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا، وهى السياسة نفسها التي تبنتها موسكو مع تركمانستان وأذربيجان بهدف الحصول على إنتاجهما من الغاز بأسعار زهيدة، ثم يتم إعادة تصديره مرة أخرى بالأسعار العالمية للدول الأوروبية. كما وجدت روسيا نافذة فرصة لامتلاك ورقة ضغط أخرى ضد أوروبا تتمثل في الإشارة إلى إمكانية قطع الإمدادات التي تسعى للحصول عليها عبر خطوط الغاز الممتدة من سوريا إلى تركيا ثم إلى أوروبا بفعل تداعيات الصراع السوري ومواجهة أنقرة لــ"حزب العمال الكردستاني".
تأثيرات مزدوجة:
خلاصة القول، صار الغاز يحقق للدول والجيوش الموازية والميليشيات المسلحة في الإقليم عوائد تجارية، فضلاً عن مكاسب جيوسياسية للقوى الدولية من جانب آخر، وهو ما يفسر أسباب تحول هذا المورد إلى أحد المحاور الرئيسية للصراعات في الشرق الأوسط، بخلاف ما سببته الأخيرة من أضرار في البنية التحتية للغاز. غير أن هناك أدوارًا أخرى تجعل لخطوط أنابيب الغاز دورًا في تنشيط التعاون الإقليمي أو الدولي، لا سيما أن الطلب العالمي على الغاز ينمو بوتيرة أسرع من العرض، لدرجة أن هناك اتجاهًا صاعدًا في الأدبيات يشير إلى احتمال إزاحة الغاز للبترول من على عرش المواد المولدة للطاقة في غضون عقود قليلة.